"لا شيء يُشترى".. الغني والفقير يتساويان أمام الجوع في غزة
"لا شيء يُشترى".. الغني والفقير يتساويان أمام الجوع في غزة
في غزة، لم يعد الجوع يفرق بين فقير وميسور، ولم تعد المكانة الاجتماعية أو القدرة المالية قادرة على تأمين وجبة طعام، في ظل حصار محكم، وقيود مشددة على دخول المساعدات، وانهيار تام للأنظمة الاقتصادية، أصبح الغني والفقير سواء في الألم والعجز، وأصبح مشهد السوق الخاوي يعكس المأساة بوضوح: "لا شيء يُشترى؛ لأنه لا شيء يُباع".
ونقلت صحيفة "فايننشيال تايمز" هذا الواقع القاسي من خلال شهادة مصطفي، الذي يغادر منزله كل يوم ومحفظته ممتلئة وبطنه خاوٍ، بحثًا عن طعام بين أنقاض مدينة غزة، يمشي ساعات، يطارد الشائعات: دقيقٌ شوهد في دكان بشارع ناصر، وعدس قرب المسجد المدمر، وخضراوات خضراء فيما كان يُعرف سابقًا بساحة السرايا.
ولم يعثر على شيء لمدة أربعة أيام، وعاد خالي الوفاض إلى منزل شقيقه في حي الرمال، الحي الذي كانت تسكنه الطبقة المتوسطة الصغيرة في القطاع. في اليوم الخامس، تبع تاجرًا في السوق السوداء في أحد الأزقة ودفع ما يقارب 100 دولار ثمنًا لكيلوغرام من العدس، كان هذا الاكتشاف النادر، أول وجبة لعائلته منذ ما يقرب من أسبوع؛ بضع ملاعق من العدس في ماء دافئ مالح، تُقسّم بين ستة أطفال وتسعة بالغين.
بينما كاد أزيز طائرة إسرائيلية بدون طيار يحجب صوته، يقول: "نحن رجال المباحث، نطارد رائحة الدقيق"، وحتى لو وجدناه، علينا أن نكون مليونيرات لنشتري كيلوغرامًا واحدًا.
تُمثل عمليات بحث مصطفى غير المُجدية أحدثَ علامة فارقة في انحدار غزة نحو المجاعة الجماعية، حيث يجد حتى من يملكون المال أنفسهم في نفس الكابوس الذي يعيشه من لا يملكون: “الجوع والبحث عن الطعام”.
كان مصطفى طويل القامة، عريض المنكبين، وسيمًا -قبل الحرب- وكان أصدقاؤه يقولون إنه قادر على أن يصبح نجمًا سينمائيًا، الآن يقول إنه فقد 40 كيلوغرامًا، أي ما يقارب نصف وزنه، وإنه يشعر بالحرج الشديد من إرسال صورة، وبأدبٍ مُفرط، يعتذر عن الحالة التي أوصلته إليها إسرائيل: "يؤسفني قول هذا، ولكن إن لم تَمُت عائلتي في عملية عسكرية إسرائيلية، فسنموت جوعًا".
أيام من دون طعام
قال برنامج الغذاء العالمي هذا الأسبوع إن واحدًا من كل ثلاثة من سكان غزة يقضي عدة أيام دون طعام، لم تعد الأمهات المصابات بسوء التغذية قادرات على إنتاج الحليب لإرضاع أطفالهن، والمصابون غير قادرين على الشفاء، ونفدت المكملات الغذائية اللازمة لعلاج الأطفال النحيفين في المستشفيات.
في حين لم يسلم أحد من العدوان الإسرائيلي، تمكنت الطبقة المتوسطة الصغيرة في غزة -من محامين وأطباء وأساتذة جامعات- في البداية من مواجهة أسوأ ويلات الجوع من خلال الاستيلاء على مدخراتهم أو اللجوء إلى التحويلات المالية من الخارج، أما الآن، فقد أصبح الغذاء نادرًا لدرجة أنهم ينضبون هم أيضًا.
قال يوسف أحمد عابد، 36 عامًا، الذي أنفق 25 ألف دولار لإعالة أسرته: "لا يوجد أغنياء، ولا طبقة متوسطة، ولا فقراء"، وأضاف أن المال الآن لا يكفي: "لا يوجد شيء للشراء".
لقد دمرت حرب إسرائيل التي استمرت 21 شهرًا، والتي بدأت بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، جزءًا كبيرًا من اقتصاد غزة، ما دفع السكان الفقراء إلى الاعتماد شبه الكامل على المساعدات.
لكن سياسات إسرائيل دفعت القطاع وسكانه البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة إلى أزمة جوع لا تُصدق، بعد ان فرضت حصارًا كاملًا على غزة استمر لأشهر في مارس، ومنذ مايو، لم تسمح للأمم المتحدة ومنظمات إنسانية أخرى بإدخال سوى القليل من المساعدات.
كيس الدقيق يكلف 40 دولاراً
في شهادة مؤلمة أخرى نقلتها "فايننشيال تايمز"، تقول أسماء طافش، التي كان راتبها الشهري من الأمم المتحدة، والبالغ 1200 دولار، يسمح لها قبل الحرب باستئجار سيارة وتناول الطعام في الخارج واصطحاب أطفالها الثلاثة إلى الشاطئ، تضطر الآن إلى بيع المجوهرات في بعض الأشهر لتعيش، حيث يكلفها كيس الدقيق 40 دولارًا.
كان النقص حادًا في الأيام الأخيرة لدرجة أن "كل ما يفكر فيه الأطفال هو: ماذا سنأكل؟ يسألني أصغرهم: يا أمي، هل دخل أي دقيق إلى غزة؟"
وأفادت تقارير حقوقية وإنسانية عدة أن الوضع في غزة بات الأسوأ في العصر الحديث، حيث يواجه أكثر من نصف سكان القطاع خطر المجاعة الفعلية، أما المفوضية السامية لحقوق الإنسان، فقد أكدت أن "استخدام الجوع سلاح حرب يُعد انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي الإنساني"، وأن الأدلة تشير إلى أن القيود المفروضة على دخول المساعدات يتم استخدامها بشكل ممنهج لتجويع المدنيين.
وفي بيان مشترك لـ"أوكسفام" و240 منظمة إنسانية أخرى، صدر في يونيو 2025، تم وصف سياسة توزيع المساعدات التي تُركّز على أربع نقاط سيطرة عسكرية أنها جزء من "احتواء قاتل" يُجبر نحو مليوني فلسطيني على الاختيار بين الجوع وبين المخاطرة بحياتهم للوصول إلى الطعام، وأنه في أقل من أربعة أسابيع، قُتل أكثر من 500 شخص وأُصيب نحو 4000 خلال محاولات الحصول على الطعام أو توزيعه، ما يجعل توزيع المساعدات هدفًا خطيرًا وليس مجرد واجب إنساني.
وفقًا لتحقيق نشرته "الغارديان" في يوليو 2025، فإن أكثر من 80% من شاحنات الغذاء التي أُدخلت إلى غزة خلال الأشهر الماضية تعرّضت للتفتيش المطول أو التعطيل، وفي أحيان كثيرة أعيدت من المعابر.
وأفادت الصحيفة بأن القوات الإسرائيلية أطلقت النار مرارًا على المدنيين المتجمعين لتلقي المساعدات من الجو، ما أدى إلى مقتل العشرات.
يعيشون في مكبّات القمامة
في شهادة صادمة لـ"الغارديان" ، قال مدير شبكة المنظمات غير الحكومية في غزة ومقرها مدينة غزة، أمجد الشوا: “كل زاوية في كل شارع تعجّ بالناس، إنهم يعيشون في مكبّات القمامة، وحفر الصرف الصحي”.
وتابع: "هناك ذباب وبعوض، ليس لدينا ماء لتوصيله، ولا طعام، ولا خيام ولا بطانيات ولا أغطية مشمعة، لا شيء على الإطلاق، الناس جائعون جدًا، لكن لا يوجد ما نقدمه لهم".
وقال الدكتور إيان لينون، استشاري طب الطوارئ البريطاني في المواصي، جنوب غزة: "نرى بعض الأطفال يعانون من سوء التغذية، لكن الجميع يشكون من الجوع، كثيرًا ما نرى مرضى يشعرون بالتعب أو الدوار لأنهم ببساطة لم يتناولوا ما يكفي من الطعام".
أرقام صادمة
- أكثر من 90% من سكان غزة (2.1 مليون نسمة) يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بحسب تقرير برنامج الأغذية العالمي لشهر يوليو 2025.
-31 % من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد.
- سجلت اليونيسف وفاة أكثر من 350 طفلًا بسبب الجوع أو أمراض مرتبطة به منذ يناير 2024.
-دخلت 12 شاحنة فقط من أصل 400 مطلوبة يوميًا خلال الأسبوع الأخير من يوليو.